اسبانيا أمام تحدي طرح أطر سياسية لتنظيم حركة السياحة لتهدئة الاحتجاجاتمن هنادي وطفة (تقرير اخباري)مدريد – 29 – 8 (كونا) — على وقع مطالبات بطرح بدائل وخلق أطر سياسية لتنظيم حركة السياحة تقف السلطات في اسبانيا أمام تحد جديد لتنظيم حركة السياحة في مسعى لتهدئة الاحتجاجات ومواصلة طريقها لاسيما بعدما نجحت في تجاوز الولايات المتحدة لتصبح ثاني أكثر الدول جذبا للسياح بعد فرنسا.وتستقطب إسبانيا عشرات الملايين من السياح سنويا ما يجعل منها رائدة في القطاع لكن السياحة المفرطة باتت تؤرق أبرز الوجهات السياحية وتدفع بسكانها إلى الاحتجاج ضد الاكتظاظ السياحي والمطالبة بخطة استراتيجية لإدارة السياحة وتنظيمها في عام من المتوقع ان يحقق أرقاما قياسية.والسياحة إحدى الركائز الأساسية للاقتصاد الإسباني ومحرك ساهم وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء ب8ر12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد مع 6ر186 مليار يورو (209 مليارات دولار) ووفر العمل لنحو 5ر1 مليون شخص.وبدأت إسبانيا في عام 1952 مشوارها السياحي مع إطلاق الخطة الوطنية للسياحة التي روجت لإسبانيا (الشمس والشاطئ) كوجهة رخيصة وآمنة مع طقس جيد ومطبخ لذيذ وقرابة 800 كيلومتر من الشواطئ وفق بيانات المعهد الجغرافي الوطني ثم بدأت منذ مطلع القرن بالتركيز على الجودة والتنويع ما بين سياحة المؤتمرات والسياحة الرياضية والعلاجية والدينية والريفية من بين أخرى ليستمر السياح بالتدفق طوال العام.ونمت تلك الصناعة وازدهرت فاحتضنت العاصمة مدريد في 1975 المقر الرسمي لمنظمة السياحة العالمية ثم أطلقت في عام 1981 المهرجان الدولي للسياحة (فيتور) الذي يعد من أهم المنصات السنوية للسياحة الدولية ومنصة مثالية للتعريف بإسبانيا ومقوماتها السياحية المتنوعة.ولا تزال الاستراتيجيات السياحية تؤتي ثمارها حيث نجحت إسبانيا قبل جائحة فيروس (كورونا المستجد – كوفيد 19) في تجاوز الولايات المتحدة لتصبح ثاني أكثر الدول جذبا للسياح بعد فرنسا مع زيارة 5ر83 مليون سائح في عام 2019 أنفقوا 3ر92 مليار يورو (4ر103 مليار دولار) ثم زارها 2ر85 مليون سائح في عام 2023 أنفقوا 7ر108 مليار يورو (8ر121 مليار يورو) بنمو قدره 7ر24 بالمئة مقارنة ب 2022 وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء.وفي النصف الأول من العام الجاري استقبلت إسبانيا وعدد سكانها 8ر47 مليون نسمة 5ر42 مليون سائح أجنبي أنفقوا 5ر55 مليار يورو (2ر62 مليار يورو) وكلاهما رقم قياسي في قطاع سجل أرقاما إيجابية للعام الرابع على التوالي بعد الجائحة.ولم تتأثر تلك الأرقام بالارتفاع القوي للأسعار وتباطؤ السياحة الوطنية أو آثار التغير المناخي كما انها لم تتأثر بالاحتجاجات ضد الاكتظاظ السياحي التي خرجت في عدد من أهم الوجهات السياحية.ويواجه المجتمع الاسباني اليوم تحديات اقتصادية وبيئية وسكنية وتغييرات اجتماعية تتطلب رؤية جديدة تسمح للقطاع بإعادة صياغة نفسه والحفاظ على نتائجه الإيجابية.ومنذ شهر أبريل الماضي خرجت مظاهرات في (جزر الكناري) و(جزر البليار) و(برشلونة) و(إشبيلية) و(ملقا) أعرب فيها السكان عن ضيق صدرهم بالآثار السلبية بيئيا واجتماعيا واقتصاديا للنموذج السياحي الراهن والتأثير المباشر للسياحة المفرطة على الحياة اليومية الطبيعية للسكان.وتلك ظاهرة ليست جديدة وغير فريدة من نوعها في إسبانيا ولكنها اكتسبت زخما بعد الصحوة النشطة للقطاع عقب السبات خلال الجائحة عندما تراجعت السياحة إلى 9ر18 مليون سائح في 2020 في ضوء الارتفاع الكبير في الأسعار والاختناق السكاني في المدن الساحلية والضغط الكبير على الخدمات العامة كمراكز الصحة والنقل والنظافة والتلوث الضوضائي والتنافس على الموارد المائية في خضم الجفاف.ومن العوامل المهمة الأخرى الارتفاع الكبير في أسعار الإيجارات مع تحول المنازل إلى شقق سياحية باتت تؤرق السكان وتدفعهم إلى مغادرة أحيائهم لاسيما ان الأجور في إسبانيا لا يمكن أن تنافس القدرة الشرائية لشريحة كبيرة من السياح.ويشير المعهد الوطني للإحصاء إلى ان عدد الشقق السياحية المرخصة في إسبانيا بلغ 4ر351 ألف شقة في الربع الثاني من العام الجاري وهو ما يمثل قرابة 4ر1 في المئة من الوحدات السكنية في إسبانيا.وفي إقليم (الأندلس) 5ر82 ألف شقة منها 1ر41 ألف شقة في محافظة (ملقا) وحدها فيما يضم إقليم (كتالونيا) شمال شرق إسبانيا 6ر52 ألف شقة سياحية منها 8ر16 ألف في عاصمتها (برشلونة) في حين تضم (مدريد) 5ر19 ألف شقة و(أليكانتي) الشرقية 4ر59 الف شقة علما بان هناك الآلاف من الشقق التي تعمل بدون ترخيص.ولذلك وقع مباشر على حياة السكان حيث تشير دراسة أجرتها شركة (فوتوكاسا) للعقارات ان تكلفة الايجار في (جرز البليار) في البحر الأبيض المتوسط نمت بنسبة 158 في المئة في العقد الأخير وبنسبة 12 في المئة في العام الماضي وحده وهي مدينة تستقبل 18 مليون سائح سنويا بينما لا يصل عدد سكانها إلى 2ر1 مليون نسمة.ويؤكد المتظاهرون انهم لا يعادون السياح بل يطالبون بطرح بدائل وخلق أطر سياسية لتنظيم حركة السياحة والتركيز على الجودة وعلى احترام هوية الوجهات السياحية وثقافتها.وفي هذا السياق يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة (جيان) في إقليم (الأندلس) الخبير في السياحة الدكتور خوان اغناسيو بوليدو لوكالة الانباء الكويتية (كونا) ان التحدي يكمن في إدارة السياحة وفقا للاحتياجات الحالية لافتا إلى ان المشكلة مشتركة مع دول أخرى حيث لم تتمكن اي من المدن السياحية الأكثر رواجا كالبندقية أو أمستردام أو نيويورك أو برشلونة من تحقيق الصيغة اللازمة للتغلب على الاكتظاظ السياحي.وسلط الضوء على المساهمة المهمة للقطاع في الاقتصاد الإسباني لافتا على سبيل المثال إلى ان ثماني من كل 10 وظائف في (جزر البليار) ترتبط بقطاع السياحة وعليه فلا بد من البحث عن حلول توافقية ومتناغمة للتحرك نحو نموذج أكثر استدامة.وفي إطار محاولتها التخفيف من الاثار السلبية أعلنت بلدية (برشلونة) إلغاء الشقق السياحية اعتبارا من 2029 كما رفعت المدينة الكتالونية الضريبة السياحية للشخص الواحد في الليلة الواحدة اعتبارا من شهر أكتوبر المقبل لكنها لن تتجاوز بكل الأحول 5ر7 يورو (4ر8 دولار) بينما تفرض (جزر البليار) ضريبة تتراوح بين اليورو وأربعة يورو (5ر4 دولار) لليلة الواحدة اعتمادا على نوع الإقامة.ويرى كثيرون ان تلك المبالغ غير كافية للتقليل من التضخم السياحي وينادون برفعها لتقليل عدد الزوار فيما يدعون للترويج للسياحة الثقافية وتوجيه السياح إلى الوجهات الأقل حظوة لتعم الفائدة جميع المناطق والمدن الإسبانية.وتعمل الحكومة الإسبانية على تطوير استراتيجية للسياحة المستدامة تهدف إلى مواجهة تحديات القطاع على المدى المتوسط والطويل ويبدو ذلك ملحا حيث ان منظمة السياحة العالمية تتوقع نمو عدد السياح إلى 95 مليون سائح أجنبي في عام 2024 بينما يتوقع المعهد الوطني للإحصاء ان يساهم القطاع ب 2ر13 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2024 بمساهمة تزيد على 202 مليار يورو (3ر226 مليار دولار).وتوقعت دراسة بعنوان (مسافرو الجيل القادم والوجهات السياحية) أجرتها شركة (ديلويت) في يونيو الماضي ان تصبح إسبانيا في عام 2040 الوجهة السياحية الأولى عالميا باستقبالها 110 ملايين سائح متقدمة على فرنسا التي سيزورها 105 ملايين سائح.من جانبها تشير تقديرات المجلس العالمي للسياحة والسفر إلى ان السياحة ستواصل نموها المطرد في العقد المقبل وستساهم بنسبة 17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وتوفر قرابة أربعة ملايين وظيفة في عام 2034 فيما ستساهم ب 2ر15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام المقبل وتوفر ثلاثة ملايين وظيفة.ومن البديهي التفكير في ان الاكتظاظ السياحي لا يؤثر على نوعية حياة أولئك الذين يقيمون في الوجهات السياحية فحسب بل يؤدي أيضا إلى تدهور تجربة الزائر وتراجع شعبية تلك المناطق وهو ما يدعو إلى رعاية الوجهات السياحة وتنميتها والاهتمام بالعامل البشري.ولا شك ان قصة السياحة في إسبانيا قصة نجاح وازدهار لكن يجب عدم اغفال أمرين أولهما ان السياحة صناعة قابلة للتنقل والبحث عن وجهات سياحية جديدة عندما تستنفد الوجهات القديمة مصادرها وتفقد سحرها والثاني هو انه عندما تصبح دولة ما وجهة سياحية فإن مستقبلها الاقتصادي يرتبط بتلك الصناعة التي قد تشكل مصدر خطر إذا غادرتها. (النهاية)ه ن د / ط م ا