الجامعة العربية… مراحل التأسيس وعقود من تحديات العمل المشترك

الدوحة في 15 مايو /قنا/ على مدى ثمانية عقود، عقد القادة العرب 46 قمة، منها 32 عادية و16 طارئة، إلى جانب 4 قمم عربية اقتصادية تنموية، وتأتي القمة الثالثة والثلاثون بمملكة البحرين في ظرف عصيب، تشهد فيه المنطقة تحديات وتهديدات بالغة، سواء على الصعيد السياسي أو الأمني أو الجيوسياسي، لعل أهمها العدوان الإسرائيلي منذ أكثر من 6 أشهر على قطاع غزة، الذي تسبب بمقتل وإصابة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وهو ما يستوجب التكاتف والوقوف صفا واحدا تحقيقا للتضامن العربي المشترك في نصرة قضية العرب والمسلمين التاريخية والأولى.

 

وتعود فكرة إطلاق مؤسسة تنادي بالوحدة العربية وتنسيق العمل العربي الوحدوي إلى مطلع القرن العشرين مع تداول أفكار وآراء من جهات وشخصيات عديدة تدعو لتوثيق العلاقات وتوحيد الجهود إبان فترة المواجهة، والتعامل مع الاستعمار البريطاني على وجه التحديد؛ بغية تقريب المواقف العربية ورفع الصوت عاليا للحصول على الاستقلال والسيادة.

لكن تلك الدعوات اتخذت طابعا أكثر جدية إبان فترة الحرب العالمية الثانية، وتحديدا عام 1942، عندما ألقى رئيس الوزراء المصري آنذاك مصطفى النحاس خطابا في مجلس الشيوخ أعلن فيه سعي مصر إلى عقد مؤتمر للقادة العرب لبحث أمر الوحدة العربية، بجانب مواقف الملك الأردني عبدالله الأول التي توافقت مع دعوات النحاس، ثم كانت الخطوة الفعلية الأولى للتأسيس بدعوة النحاس كلا من رئيس الوزراء السوري جميل مردم ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية بشارة الخوري عام 1944 للتباحث في القاهرة حول فكرة إقامة جامعة عربية.

 

ولم تأخذ تلك الدعوات حقها من الانتشار والقبول، حتى بدأت سلسلة من المشاورات الثنائية والتحضيرية بين مصر ودول العراق وسوريا ولبنان والسعودية والأردن واليمن، وكانت الاتجاه الواقعي آنذاك ألا يؤثر إعلان الجامعة العربية الوليدة على استقلالية قرار الدول الموقعة وسيادتها، كما استقرت اللجنة التحضيرية على اعتماد تسمية /جامعة الدول العربية/، واعتماد “بروتوكول الإسكندرية” الذي صار أول وثيقة تخص الجامعة، وتم التوقيع عليه من رؤساء الوفود المشاركة في 7 أكتوبر 1944.

وبعد عقد 16 اجتماعا بمقر وزارة الخارجية المصرية بالإسكندرية، تم إقرار التعديلات وإعلان صيغة ميثاق جامعة الدول العربية، ثم تنادت الدول العربية السبع، في يوم 22 مارس عام 1945، للتوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية من قبل المندوبين، فوقعت عليه مصر والعراق وسوريا ولبنان والأردن أولا، ثم تبعها لاحقا كل من السعودية واليمن، وأصبح يوم 22 مارس من كل عام هو يوم الاحتفال بالعيد السنوي لجامعة الدول العربية التي باتت تضم الآن 22 دولة.

 

وفي عام 1946 في الفترة ما بين (28 – 29 مايو)، عقدت /قمة أنشاص/، فكانت المؤتمر الأول للقادة العرب بدعوة من الملك فاروق الأول، وحضرته الدول السبع المؤسسة للجامعة العربية (مصر والأردن والسعودية والعراق واليمن ولبنان وسوريا)، وقد صدر عن المؤتمر الأول مجموعة قرارات تركزت على مساعدة الشعوب العربية المستعمرة على نيل استقلالها، وأن قضية فلسطين قلب القضايا القومية، باعتبارها بلدا لا ينفصل عن باقي البلدان العربية.

وبتأسيس جامعة الدول العربية، أصبحت أول منظمة دولية قامت بعد الحرب العالمية الثانية، أي قبل منظمة الأمم المتحدة بشهور، لتفعيل التعاون بين الدول الأعضاء، وهو ما تؤكده ديباجة ميثاق تأسيس الجامعة، التي نصت على تثبيت العلاقات الوثيقة ودعم الروابط العربية، وتوطيدها على أساس احترام استقلال تلك الدول وسيادتها وإصلاح قوانينها وتنظيم مؤسساتها، بهدف تحقيق أمانيها وآمالها، استجابة للرأي العام في الأقطار العربية.

 

ويتضمن ميثاق الجامعة ديباجة للموافقة على الميثاق؛ بهدف تدعيم العلاقات والوشائج العربية، بالإضافة إلى عشرين مادة وثلاثة ملاحق خاصة؛ يتعلق الملحق الأول بفلسطين على أن يحضر مندوب فلسطين كمراقب في اجتماعات مجلس الجامعة والمشاركة في أعماله لحين حصولها على الاستقلال، ويختص الملحق الثاني بالتعاون مع الدول العربية غير المستقلة حتى ذلك الوقت والتنسيق مع قياداتها، أما الملحق الثالث فأقر تعيين عبدالرحمن عزام الوزير المفوض بوزارة الخارجية المصرية كأول أمين عام للجامعة لمدة عامين.

 

وتنظم المادة الثانية عشرة من الميثاق وضع الأمانة العامة للجامعة، التي أشير إلى أن يتم تشكيلها من أمين عام وأمناء مساعدين وعدد من الموظفين، وأن مجلس الجامعة هو الذي يعين الأمين العام بأغلبية الثلثين ولمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، فيما يتولى الأمين العام -بموافقة المجلس- تعيين الأمناء المساعدين والموظفين الرئيسيين في الجامعة، فتعاقب على منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية سبعة أمناء هم السادة: عبدالرحمن عزام، ومحمد عبدالخالق حسونة، ومحمود رياض، والشاذلي القليبي، وعصمت عبدالمجيد، وعمرو موسى، ?ونبيل العربي، وأحمد أبو الغيط الذي يتولى الأمانة العامة منذ 2016 حتى الآن.

 

وتتكون جامعة الدول العربية من ثلاثة فروع رئيسية أنشئت بمقتضى نصوص الميثاق، وهي مجلس الجامعة واللجان الدائمة والأمانة العامة، بخلاف الأجهزة التي أنشأتها معاهدة الدفاع العربي المشترك التي أبرمت عام 1950، والأجهزة التي تم إنشاؤها بمقتضى قرارات صادرة عن مجلس جامعة الدول العربية، فضلا عن المجالس الوزارية المعنية بالشؤون الصحية والسياحية والأمنية.

 

وكان من بين القرارات المهمة للقمم العربية ربط المجالين الاقتصادي والاستراتيجي (أو الأمني) عبر معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، التي وقعت في عام 1950، وهو ما يمثل إدراكا مبكرا لتعدد أبعاد الأمن، وتجاوز البعد الأمني أو العسكري؛ إذ إن المعاهدة نصت في مادتها السادسة على تكوين مجلس للدفاع المشترك يستطيع اتخاذ قرارات ملزمة لجميع الأعضاء بأغلبية الثلثين، مما عد حينها نقلة نوعية تعالج النقطة الخاصة باشتراط الإجماع في قرارات الجامعة، وعدم إلزام القرارات التي تتخذ بالأغلبية لغير الموافقين عليها.

وعلى الجانب الاقتصادي، كانت أولى الخطوات البارزة هو قرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي بخصوص اتفاقية “تيسير وتنمية التبادل التجاري العربي” في عام 1953، ثم إبرام اتفاقية “الوحدة الاقتصادية العربية” في عام 1957، أتبعها صدور قرار إنشاء “السوق العربية المشتركة” في عام 1964، ثم تبني الوثائق المتعلقة باستراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك، وميثاق العمل القومي الاقتصادي، وصولا إلى مشروع عقد التنمية المشتركة والاتفاقية الموحدة للاستثمار في قمة عمان بالأردن عام 1980.

 

على أن انعقاد أول قمة عربية على مستوى الزعماء والقادة لم يتبلور إلا عام 1964 في القاهرة، على خلفية قيام الكيان الإسرائيلي بتحويل مجرى نهر الأردن، ومن حينها تم الاتفاق على قرار بانتظام انعقاد قمم عربية سنويا، وكان هذا الأمر يمثل مطلبا عربيا متكررا، خاصة مع تنامي الدور الذي باتت تلعبه مؤسسة القمة على مستوى النظام العربي وتعدد أبعادها.

وبطبيعة الحال، يفتح ميثاق الجامعة العربية الباب أمام الدول الراغبة للتعاون المشترك الوثيق وعقد الاتفاقيات البينية والانضمام للجامعة العربية، وإمكانية التعديل على بنوده بموافقة ثلثي الدول الأعضاء، فضلا عن إنشاء محكمة عدل عربية، بجانب الأطر الضرورية لتحقيق التعاون في الشؤون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والصحية، وتنظيم العلاقات بين الجامعة والمنظمات الدولية، التي ترسخ مبدأ صون السلم والأمن الدوليين.

ويعد مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة أعلى سلطة في الجامعة العربية، وينعقد على مستوى قادة الدول العربية كل عام، وتعقد جامعة الدول العربية اجتماعات طارئة على مستوى القمة، كلما دعت الحاجة لذلك، بينما تعقد دورات المجلس على المستوى الوزاري في شهري مارس وسبتمبر من كل عام، إلى جانب الدورات الاستثنائية الطارئة، أما المجلس الوزاري التحضيري للقمة العربية، فينعقد مرة واحدة في العام للتحضير للقمة العربية العادية السنوية، ناهيك عن دورات مجلس الجامعة على مستوى المندوبين الدائمين.

 

ويختص مجلس الجامعة، بحسب المادة الثالثة من الميثاق، بمراعاة تنفيذ ما تبرمه الدول الأعضاء من اتفاقيات في مختلف المجالات، واتخاذ التدابير اللازمة لدفع العدوان الفعلي أو المحتمل الذي قد يقع على إحدى الدول الأعضاء، وفض المنازعات بين الدول الأعضاء بالطرق السلمية مثل الوساطة والتحكيم، وتحديد وسائل التعاون مع الهيئات الدولية، بما يحفظ السلم والأمن الدوليين.

 

أما المجلس الاقتصادي والاجتماعي فيجتمع في دورتين على مستوى كبار المسؤولين وعلى المستوى الوزاري، ويشارك المجلس في التحضير للقمم العربية والاجتماعات التحضيرية للقمة الاقتصادية والاجتماعية، وتختص مهمته بالموافقة على إنشاء أي منظمة عربية متخصصة، كما يشرف على حسن قيام المنظمات الحالية بمهامها المبينة في مواثيقها، وذلك وفق الأحكام التي يقررها لذلك، وللمجلس لجنتان اقتصادية واجتماعية، تنسق جهودها مع المجالس الوزارية المتخصصة، كمجلس وزراء الداخلية العرب، ومجلس وزراء الصحة العرب، ومجلس وزراء الإعلام العرب.

وقد ساهمت الجامعة العربية طيلة عقود بشكل فاعل، في صياغة المناهج الدراسية، والنهوض بدور المرأة في المجتمعات العربية، وتعزيز رعاية الطفولة، وتشجيع برامج الشباب والرياضة، والحفاظ على التراث الثقافي العربي، وتعزيز التبادلات الثقافية بين الدول الأعضاء، حيث تم إطلاق حملات لمحو الأمية، وترجمة للمصطلحات التقنية الحديثة لاستخدامها داخل الدول الأعضاء، كما شجعت الجامعة على اتخاذ التدابير اللازمة لمكافحة الجريمة وتعاطي المخدرات، وللتعامل مع القضايا العمالية، لا سيما بين القوى العربية في المهجر.

 

وعلى مدى تاريخها الطويل، لعبت الجامعة العربية دورا مهما وسط بيئة صعبة وشائكة على دعم استقلال الدول الأعضاء، وتقديم الدعم السياسي للدول الطامحة، ومساعدة البلاد العربية في صراعها ضد الاستعمار، ودفع عجلة التقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي، وتخطيط آفاق التنمية، وتنسيق المواقف لمواجهة التحديات الهائلة من الداخل والخارج، بما تضمنته الأحداث من لحظات مفصلية، ونجاحات تحققت وإخفاقات أملتها الظروف القاهرة، ومعارضة مصالح الدول الكبرى.

 

كما واجهت الجامعة العربية مواقف صعبة وخيارات مريرة تجاه التعامل مع أحداث كبرى شهدتها المنطقة، مثل: العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والحرب العربية مع إسرائيل عام 1967، مرورا بحرب أكتوبر عام 1973، والحرب الأهلية في لبنان، وعملية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، دون إغفال الحرب العراقية – الإيرانية بالثمانينيات، وغزو العراق للكويت 1990، ثم حصار العراق بالتسعينيات، وصولا إلى الغزو الأمريكي له عام 2003، بجانب فترات من الخلافات العربية البينية.

 

ورغم كل تلك الوقائع والأحداث المريرة، فإن أدوار الجامعة العربية تطورت وتوسعت خارجيا، في سبيل تجسير المسافات مع التكتلات الدولية والدول العظمى، للاستفادة من خبراتها الصناعية والتقنية والتجارية، فنشأت منتديات التعاون العربية الدولية، مثل منتدى التعاون العربي الصيني، ومنتدى التعاون العربي الروسي وغيرها، ووقعت اتفاقيات التعاون مع عدد من المنظمات الدولية والإقليمية الأخرى، كما عقدت الجامعة العربية عددا من القمم المشتركة، التي تهدف إلى تعميق التعاون الدولي على أعلى المستويات، مثل: القمة العربية الأوروبية، والقمة العربية الإفريقية، والقمة العربية مع دول أمريكا الجنوبية، وغيرها.