مكة المكرمة 29 جمادى الأولى 1447 هـ الموافق 20 نوفمبر 2025 م واس
إعداد: عايض الجعيد تصوير: محمد المحمادي، أحمد با موسى
رغم التحولات العمرانية المتسارعة التي شهدتها مكة المكرمة خلال العقود الأخيرة، لا تزال العمارة الإسلامية تشكّل روح المكان ومعناه، حاضرةً في تفاصيله ومعالمه المقدسة، وإن تغيّرت ملامحها وتداخلت مع العمارة المعاصرة، فبينما تتجه المشاريع الحديثة نحو التصميمات العصرية، تحرص الجهات المختصة على دمج العناصر الإسلامية في تفاصيلها، حفاظًا على هوية المكان وقدسيته.
وتمثّل التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام مثالًا واضحًا على هذا الدمج؛ إذ تجمع جماليات العمارة الإسلامية وتقنيات البناء الحديثة، من خلال الأقواس المزخرفة والقباب المهيبة والرخام الفاخر الذي يعكس روح الطراز الإسلامي الأصيل.
ويُعَدّ الرواق أحد أبرز المكونات المعمارية في المسجد الحرام، وأهم عناصر تشكيل البنية الوظيفية والجمالية للعمارة الإسلامية في مكة المكرمة، ولا سيما الرواق السعودي، فهو فضاء مسقوف يمتد على أطراف الصحن، محمول على صفوف منتظمة من الأعمدة أو العقود، مما يمنحه حضورًا بصريًا مميزًا ويجعله عنصرًا بنائيًا يجمع الغاية العملية والفنية.
وأدى الرواق عبر العصور دورًا محوريًا في حماية المصلين من عوامل الطقس القاسية كحرارة الشمس والأمطار، إضافة إلى إسهامه في تنظيم حركة الحشود داخل المسجد الحرام، خصوصًا خلال مواسم الحج والعمرة.
ويبرز الباحث الدكتور محمد حمزة إسماعيل الحداد القيمة التاريخية والأثرية لهذه الأروقة في كتابه “الرواق في العمارة الإسلامية بمكة المكرمة”، موضحًا أنها شكلت محطات مهمة في تطوّر العمارة الإسلامية بمكة، إذ شهدت تحولات متتابعة منذ التجديدات المبكرة للعصور الإسلامية وصولًا إلى العهد الحديث.
ويشير الكتاب إلى دور الأروقة في تحقيق الانسجام بين الفراغات الداخلية والخارجية للمسجد، وفي إبراز الهوية العمرانية المكية القائمة على الجمع بين البساطة والوظيفية من جهة، والثراء البنائي والزخرفي من جهة أخرى، مما يجعلها شاهدًا حيًا على تاريخ معماري ممتد يعكس قدسية المكان وتحولاته عبر الزمن.
وخلص إلى أن استخدام الأروقة في مكة المكرمة يعود إلى عصر الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، وتحديدًا في عهد الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- سنة 26هـ، قبل أن تنتشر وتتطور خلال العصور اللاحقة.
وتشهد مكة المكرمة اليوم اهتمامًا متزايدًا بإحياء المباني التراثية ذات الطابع الإسلامي، مثل قصر السقاف الذي يعد نموذجًا للعمارة المكية التقليدية، إضافة إلى المعارض التي توثّق تطور عمارة الحرمين الشريفين، بما يعكس الوعي بأهمية الحفاظ على الهوية الإسلامية في مواجهة التغيرات الحديثة.
ويؤكد مختصون أن الحفاظ على الطراز الإسلامي لا يقتصر على الزخارف، بل يشمل الهوية العامة والجو الروحي للمكان، رغم التحديات التي يفرضها الضغط العمراني والزحام والتجديد المستمر.
وبحسب الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، فإن الارتباط بالإرث العمراني والتاريخي للمدينة يهدف إلى الارتقاء بالمشهد الحضري وجودة الحياة، من خلال موجهات عمرانية مبتكرة منسجمة مع رؤية المملكة 2030, وتشمل هذه الموجهات حلولًا عملية ومستدامة تحقق التكامل بين الجوانب الجمالية والوظيفية للفراغات والكتل العمرانية، وتمكّن الجهات المعنية والمكاتب الهندسية من تطوير أفضل الممارسات الفنية.
وتوضح الهيئة أن الموجهات التصميمية لعمارة مكة والمشاعر تستند إلى ثلاثة مصادر معمارية: التوسعة السعودية الثانية للمسجد الحرام، والعمارة التقليدية، والمناظر الطبيعية، موزعة على نطاقات مكانية محددة.
وتهدف الهيئة من إطلاق عمارة مكة والمشاعر إلى تحسين الهيكل العمراني للمناطق من خلال التطوير المعماري لمراكز النمو، وتشجيع الأساليب المستدامة للتصميم، وإيجاد منهجية إرشادية لتحقيق التميز العمراني وتحسين جودة الحياة، من خلال توفير هوية لعمارة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة تستند إلى الموروث الثقافي والبيئي وتحاكي التطورات المستقبلية، وتحافظ على طبيعة مدينة مكة المكرمة من قمم وسفوح الجبال ومراعاة ذلك في التصاميم، مؤكدة أن أصالة عمارة مكة المكرمة تسهم في تعزيز المشهد الحضري لمكة والمشاعر المقدسة، وتدعم العمارة السعودية في إبراز طابع المدن السعودية، مع مراعاة الجوانب التاريخية والثقافية والاقتصادية.
وتبين أمانة العاصمة المقدسة أنها تولي اهتمامًا بالغًا بالحفاظ على الهوية العمرانية الإسلامية، انسجامًا مع المكانة الدينية والروحية لمكة المكرمة، وتعمل الأمانة على تطبيق معايير التصميم المستوحاة من الطراز الإسلامي في المشاريع التطويرية، بما يعكس أصالة العمارة المكية ويواكب متطلبات التنمية الحديثة، مع الحرص على توحيد الطابع الجمالي للمباني واستخدام المواد والألوان المتناغمة مع بيئة مكة المكرمة، إضافة إلى تطوير الأحياء التاريخية بطريقة تحافظ على تراثها العمراني الأصيل، تحقيقًا لمستهدفات رؤية المملكة 2030.
وأكد رئيس قسم العمارة بجامعة أم القرى الدكتور عمر عدنان أسرة، أن مكة المكرمة تشهد تحولًا عمرانيًا يعكس توجه المملكة نحو بناء مدن عصرية محافظة على هويتها الإسلامية، انسجامًا مع أهداف رؤية 2030 التي تركز على إبراز العمق الإسلامي والتاريخي في مشروعات التطوير, ويرى أن مكة تمثل نموذجًا فريدًا في هذا الإطار نظرًا لخصوصيتها الدينية والروحية التي تتطلب فهمًا عميقًا لأبعادها الرمزية والمكانية ومن أبرز الأمثلة على هذا التوجه مشروع بوابة الملك سلمان الذي يستلهم مفردات العمارة الإسلامية كالقباب والأقواس والزخارف المكية ويعيد توظيفها بلغة معمارية حديثة تعتمد على التقنيات المعاصرة ومفاهيم الاستدامة.
ويشير إلى أن الرؤية المستقبلية لعمارة مكة تقوم على المواءمة بين الأصالة والتجديد، وبين التاريخ والابتكار، لتبقى المدينة نموذجًا عالميًا يجمع روح التراث وملامح الحداثة، معبّرة عن هوية المكان ومكانته في قلب العالم الإسلامي.
وفي المجمل، يمكن القول إن العمارة الإسلامية في مكة المكرمة لا تزال حاضرة بفاعلية، وإن لم تعد مطابقة للطراز التقليدي القديم، فهي تشكّل اليوم تجربة متجددة تجمع التراث الإسلامي والعمارة الحديثة. فعمارة مكة المستقبلية ليست مجرد توسع حضري، بل مشروع حضاري يربط بين الأصالة والابتكار، مقدمًا نموذجًا لمدينة مقدسة تتطور من دون أن تفقد هويتها، ويبرهن حضور ملامح العمارة الإسلامية فيها، رغم اتساع العمران الحديث، على جهود الجهات المعنية في دمج الطراز الإسلامي بالعمارة المعاصرة حفاظًا على الهوية الدينية والتاريخية للمدينة.
وتبقى مكة المكرمة مثالًا لمدينة احتضنت العمارة الحديثة دون أن تتخلى عن جذورها، لتظل العمارة الإسلامية فيها شاهدًا على تاريخ ممتد وهوية متجددة.
// انتهى //
19:07 ت مـ
0209