رمضان الخير في البحرين..ليال روحانية وموائد رحمانية ممتدة بين هلالين

رمضان الخير في البحرين.. ليالٍ روحانية وموائد رحمانية ممتدة بين هلاليْن

إعداد: هـنـد كــرم

“شهر رمضان الذي أُنـزل فيه القرآن هُدىً للناس وبينات من الهدى والفُرقان”. صدق الله العظيم.

قيمٌ عظيمة لشهر عظيم، خصّه الله عز وجل بالذكر في كتابه العزيز بآيات بينات من سورة البقرة، حيث كرمّه بنزول القرآن الكريم فيه على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومدح فضله بأنه شهر الرحمة والهداية للناس بالحق، ومضاعفة الأجر والثواب عبر الإكثار من الطاعات والعبادات والصدقات.

ويتمتع شهر رمضان بخصوصية دينية وروحانية عظيمة في مملكة البحرين، حيث يستقبله البحرينيون بكثير من البهجة والسعادة والاحتفاء، تظهر ملامحها في تعظيم شعائر هذا الشهر المبارك ليس من منطلق اعتبارات دينية فحسب، وإنما وفقاً لعادات وتقاليد الآباء والأجداد الشعبية المتوارثة من التراث البحريني الخالد والذي يزخر بالطقوس الروحانية والاجتماعية والثقافية التي يمارسها أهل البحرين على مدار هذا الشهر الفضيل.

التجهيزات تسبق حلول شهر رمضان بأيام ولكن مع ثبوت رؤية هلاله يُقطع الشك باليقين وتنطلق الطقوس الرمضانية المحببة والمنتظرة، حيث تبتهج المساجد وتعلن إتمام استعدادها لاستقبال المصلين في أولى لياليها الرمضانية لأداء صلاة التراويح التي يشتاقها المصلون وينتظرونها كل عام، كما تتكثف الحركة في الأسواق والشوارع حتى موعد السحور لشراء المواد الغذائية وزينة وملابس رمضان، وسط مبادلات للتهاني والتبريكات بحلول الشهر الكريم. وفي السنوات الأخيرة بات تبادل ما يعرف بالـ “نقصه” بين الأهل والأصدقاء عادة جديدة على المجتمع البحريني ولكن محمودة، وهي عبارة عن هدايا رمضانية تقدم قبل رمضان بأيام تعبيراً عن الفرحة والاحتفاء بحلول الشهر الكريم.

ويحرص البحرينيون في شهر رمضان المبارك على اللقاءات والتجمعات العائلية مع الأهل والأقارب خاصة لتناول وجبة الإفطار التي يلتف حول مائدتها العامرة ثلاثة أجيال أو ربما أكثر، إعلاءً لصلة الرحم، وتناقلاً للموروثات الثقافية والاجتماعية الأصيلة للأجيال الجديدة، لاسيما وأن إحدى العادات المصاحبة للإفطار هو تبادل بعض الأطباق الشعبية مع الجيران والأصدقاء في لفتةٍ تستمد شيم الأصالة والكرم من كرم الشهر المعظم.

هذا وتتميز السفرة الرمضانية البحرينية بما لذ وطاب من أصناف الطعام التراثي والأكلات الشعبية اللذيذة والشهيرة، يأتي على رأسها الثريد والهريس والكباب البحريني والخنفروش واللقيمات والعصيدة والحلوى البحرينية، وجميعها أطباق محببة ذاع صيتها خليجياً كما تلقى إقبالاً واستحساناً من جميع الجاليات المقيمة في مملكة البحرين.

وفي شهر الخير والبركة، يُعظم المسلمون في مملكة البحرين شعائرهم الدينية حيث تمتلئ المساجد والجوامع بالمصلين، وتقام دروس تحفيظ وتفسير القرآن، كما تستقبل بعض المساجد خطباء ودعاة من الدول الخليجية والعربية الشقيقة لإمامة المصلين في صلاتي العشاء والتراويح وعقد ندوات ومحاضرات دينية رمضانية في أجواء روحانية مميزة مفعمة بذكر الله والطاعات.

كما تتعاظم العبادات والطاعات والصدقات وصالح الأعمال تجسيداً للأخوة والإنسانية، ولعل من بين المبادرات الخيرية المؤثرة التي أصبحت سمة تميز شهر رمضان في المجتمع البحريني في السنوات الأخيرة، خدمة “فاعل خير” الالكترونية التي أطلقتها وزارة العدل والشؤون الإسلامية بالتعاون مع وزارة الداخلية والتي تتيح لأصحاب الأيادي البيضاء بالمشاركة في عمل الخير وتقديم التبرعات المالية لفك كربة المعسرين والمتعثرين الصادرة في حقهم أحكام قضائية من الغارمين، إضافة إلى تسابق الجمعيات الخيرية وأهل الخير لتقديم السلال الرمضانية ووجبات إفطار صائم وموائد الرحمن للفقراء والمتعففين والعابرين في الطريق.

وتحظى “المجالس الرمضانية ” في المجتمع البحريني باهتمام وإقبال كبيرين من جميع الأعمار صغاراً وكباراً على مدار ليالي الشهر الكريم، حيث يعتبر ارتياد المجالس والديوانيات من العادات الأصيلة التي توارثتها الأجيال باعتبار أن ” مجالسنا هي مدارسنا” التي يتعلم فيها الرجال منذ صغرهم أصول العادات والتقاليد وعلوم الدين والدنيا واكتساب الخبرات التي تفتح قريحتهم وتغرس فيهم القيم والأصالة إضافة إلى أنها متنفس للقاء وتمضية الوقت في تبادل الأحاديث والسمر والترفيه.

ومع اقتراب انتصاف أيام الشهر الكريم، تحظى ليلة النصف من رمضان باحتفالية تراثية وشعبية كبيرة يبتهج بها جميع أهل البحرين في مختلف المحافظات وهي ليلة “القرقاعون”. القرقاعون أيضاً مناسبة تراثية يشترك فيها أهل الخليج العربي جميعاً مع فروقات بسيطة فقط في التسمية. وليلة القرقاعون عادة تراثية قديمة يرتدي فيها الأطفال الملابس الشعبية المزركشة والملونة ويطوفون الأحياء السكنية “الفرجان” في مجموعات كبيرة، حاملين معهم سلالاً مصنوعة من سعف النخيل أو أكياساً قماشية ملونة كبيرة، تكفي لجمع الحلوى والمكسرات من الجيران الذين يقرعون أبوابهم للفوز بما يجودون به من عليهم من صنوف القرقاعون المتنوعة ولذلك يعود أصل تسمية القرقاعون بهذا الاسم نسبة إلى قرع الأطفال للأبواب.

وقديماً كانت الفتيات يرتدين ” البُخْنَقْ ” في القرقاعون وهو اللباس التقليدي للفتيات، وعبارة عن غطاء أسود مصنوع من قماش شفاف مزينة أطرافه بنقوش من الخيوط الذهبية يلبس فوق الرأس مع إطهار الوجه ويغطي نصف الجسم تقريباً، بينما يلبس الأولاد “الثوب البحريني” الأبيض التقليدي وطاقية الرأس المعروفة بالـ “قَحْفيّة” والصديري. أما في العصر الحديث فقد تنوعت الأزياء التراثية ودخل عليها إضافات وأصبحت أكثر تزيناً ولم تعد قاصرة على البخنق للفتيات، بل تنوعت بين الجلابيات والفساتين ذات الطبعات التي لازالت تحتفظ بالألوان والنقوش التراثية.

ويردد الأطفال خلال تجولهم في الفرجان ليلة القرقاعون أنشودة تراثية معروفة في الموروث الشعبي البحريني وهي: 


قرقاعون عادت عليكم..

آوه يالصيّام ما بين قصير ورميضان

سلم ولدهم يا الله.. وخله لأمه يا الله 

وهي أهزوجة مضمونها التهنئة بانتصاف الشهر والدعاء للأطفال المتجولين في الأحياء كل باسمه بأن يحفظهم الله ويرعاهم لأمهاتهم. كما يشارك في احتفالات القرقاعون رقصات تراثية مثل “الفريسة” أي لبس مجسم مزين ومزركش للفرس وهي رقصة يسعد بها الصغار والكبار وجزء أصيل من مظاهر الاحتفالات بالقرقاعون في البحرين.

وتتميز العشر الأواخر من شهر رمضان بخصوصية كبيرة لدى أهل البحرين حيث تتركز فيها الطاعات والعبادات والسعي لختم القرآن وقيام الليل والتهجد مع ترقب الليالي الوترية من الشهر المبارك، عللها تصادف ليلة القدر بنسائمها الباردة وتباشيرها وطاقتها النورانية وفضلها وخيرها الذي يعادل أجره ألف شهر.

وتتناقص الأيام حتى يحين للضيف الكريم المُتعجل أن يرحل، بعد أن ملأ أيامه ولياليه بالبركات والنفحات الإيمانية وخشوع النفس وصفاء الروح، فلم يلبث أن يهل هلاله بزينته وفوانيسه المضيئة وعاداته المبهجة، حتى يغادر سريعاً ، ليودعه البحرينيون بسيلٍ من الدعوات والأمنيات أن يعيده الله على الأمة الإسلامية بالخير واليمن والبركات وأن يشهدوا صيامه وقيامه العام المقبل لا فاقدين ولا مفقودين.