
الجزائر في أول سبتمبر /العُمانية/ يطرحُ كتابُ
“أيّ مدينة نختار؟”، الصادر عن (دار أدليس للنشر والتوزيع/ الجزائر)،
للباحثة، فريال سولاف قورشال، لمناقشة فكرة الفلسفة
السياسيّة بين الفارابي وابن رشد، كما يفتح نافذة على الفكر السياسي الإسلامي، في
محاولة لإخراج الفلسفة من قاعات الجامعات إلى فضاء القراءة العامة. وما يُميّزُ هذا الكتاب أنّ مؤلفته لم تعتمد الأسلوب الأكاديمي
التقليدي، بل صاغته بلغة أدبيّة سلسة تجعلُ القارئ العادي قادرًا على ملامسة قضايا
الفكر السياسي العميقة دون تعقيد.
وينطلقُ الكتاب
من رحلة مقارنة بين الفارابي (874م/ 950م)، في المشرق الإسلامي، وابن رشد (1126م/
1198م)، في المغرب الإسلامي. وكلاهما استلهم الفلسفة اليونانية في بحثه عن معنى
السياسة العادلة والمدينة المثالية، لكنّ مسارهما اتّخذ أشكالًا مختلفة؛ فقد كان
الفارابي مشدودًا إلى أفلاطون ومدينة الفلاسفة الفاضلة، بينما وجد ابن رشد نفسه مُضطرًّا
إلى العودة إلى أفلاطون أيضًا في ظلّ غياب مؤلفات أرسطو السياسية في الأندلس، وهو
الذي اشتهر بكونه الشارح الأكبر لأرسطو. ويُبرز الكتاب أيضًا
كيف انتقلت الفلسفة السياسية الإسلامية من التجريد الميتافيزيقي عند الفارابي إلى
التحليل الواقعي عند ابن رشد.
وقالت فريال سولاف قورشال، مؤلفة الكتاب في حديث لوكالة الأنباء العُمانية:
“السياسة عند الفارابي، امتدادٌ للنبوة والعقل معًا، والمدينة الفاضلة هي
انعكاسٌ للانسجام بين الدين والفلسفة. أمّا عند ابن رشد، فالسياسة تأخذ بُعدًا
أكثر واقعية، إذ تحاول أن توازن بين الممكن والمطلوب، وبين العقل العملي وضرورات
المجتمع. وهذا الانتقال مثّل لحظة تأسيسيّة في الفكر السياسي الإسلامي، لحظة جسّدت
التحوُّل من المثال المجرّد إلى الواقع الملموس. وهذا
الكتابُ لا يكتفي بالعرض التاريخي أو التحليل المقارن، بل يذهب أبعد من ذلك، مُحاورًا
الحاضر، ومستشرفًا المستقبل. فهو يتساءل: أيّ مدينة نريد اليوم؟ وأيّ مدينة نحتاج
وسط أزماتنا السياسية والاقتصادية والثقافية؟”.
وتُقدّم المؤلفة تصوُّرًا جديدًا تُسمّيه “المدينة الثالثة”؛
وهي مدينة تسعى إلى تجاوز الثنائية الكلاسيكية، بين المثال والواقع، فتجمعُ بين
مثالية الفارابي الحالمة وواقعية أرسطو النقدية، بين إشعاع التراث وأسئلة الحاضر. وهذا
التصوُّر لا يقدّم إجابات جاهزة بقدر ما يفتح الباب أمام القارئ للتفكير والتأمُّل.
وفي ختام الكتاب، تطرحُ المؤلفة أسئلة إشكاليّة، أبرزُها هل
الحاكم وحده قادر على تشييد المدينة الفاضلة؟ أم أنّ التغيير يبدأ من المحكومين
ومن إعادة بناء ذواتنا قبل أيّ إصلاح سياسي؟ وهل يكفي أن نبحث عن تغيير السلطة، أم
أنّ الثورة الحقيقيّة تكمن في التغيير الداخلي للأفراد؟
وبين المثال والواقع، يأخذنا الكتاب في رحلة استكشافية داخل أفق
الفلسفة السياسية الإسلامية: من الفارابي الذي أسّس مدينة فاضلة تقوم على العقل
والنبوّة، إلى ابن رشد الذي أنزل المدينة من سماء المثال إلى أرض الواقع، وصولًا
إلى أفق جديد تطرحه المؤلفة تحت اسم “المدينة الثالثة”؛ إنّها مدينة
تحاول أن تجمع بين طموح المثال وضرورات الواقع، بين ما يجب أن يكون وما يمكن أن
يكون. وبهذا المعنى، لا يقتصر الكتاب على
إعادة قراءة التراث الفلسفي الإسلامي، بل يُحوّله إلى مرآة لواقعنا الراهن، وإلى
بوصلة للتفكير في المستقبل.
إنّ سؤال: “أيّ مدينة نختار؟”، بحسب ما تذهب إليه المؤلفة،
ليس مجرّد سؤال فلسفيّ أو تاريخي، بل هو سؤالٌ مصيريٌّ يضع القارئ أمام تحدّياته
الشخصيّة والجماعيّة، إنّه
كتابٌ لا يغلق الأفق بالإجابات النهائيّة، بل يفتح فضاءً للتساؤل والمراجعة، حيث
يجد القارئ نفسه مدفوعًا إلى مواجهة أسئلته الخاصّة: عن السياسة، وعن المجتمع، وعن
موقعه في العالم. ومن هنا تتجلّى قيمة هذا العمل الذي لا يترك القارئ متفرّجًا، بل
يُقحمه شريكًا في التفكير لبناء “المدينة الثالثة” التي قد تكون حلم
الغد، وواقعه في آن واحد.
/العُمانية/ النشرة الثقافية
أصيلة
الحوسنية