الروائي حسين أبو السباع: للرواية العُمانية نَفَس تأملي يمزج بين الحسّ المحلي والوعي الكوني

مسقط في 27 أكتوبر /العُمانية/ يرى
الروائي والكاتب المصري حسين أبو السباع أن الرواية العُمانية اليوم أكثر هدوءًا،
ما أوجد لها عمقًا أدبيًّا نوعيًّا، وهو ما أشار إليه في سياق حديثه عن نتاجه
الأدبي وما تحقق في مسيرته مع الكتابة التي تُوّجت بعدد من الأعمال، من بينها
المجموعة القصصية “ربع ميت” الصادرة عام 2003، وتتناول بعض ملامح الحياة
في تسعينيات القرن العشرين، و “حبات سكر مرة” ديوان شعر صدر عام 2013،
ويتناول مفاهيم الغربة والاغتراب، و “التحريض ولادة قيصرية” وهو كتاب
يتناول قضايا الربيع العربي صدر عام 2013.

وفي سياق الحديث عن الرواية العُمانية
أيضًا وتقاطعاتها مع قراءته لها، وما يراه في حضورها عربيًا وعالميًا، قال: “ما
يدهشني في الرواية العُمانية الهدوء العميق الذي يشتغل من تحت السطح، إنها لا تلهث
وراء الحدث، بل تغوص في المعنى، تُكتب من الهامش لتضيء المركز، ومن التفاصيل
الصغيرة لتكشف الواقع الإنساني في أوسع تجلياته. ما يجذبني فيها اليوم هو هذا
النَفَس التأملي، هذا المزج بين الحسّ المحلي والوعي الكوني، بين ذاكرة المكان
وأسئلة الإنسان”.

وأضاف: “أشعر أن الرواية
العُمانية قريبة من رؤيتي السردية، فهي لا تبحث عن البطولة ولا الخطابة، بل عن
الإنسان العادي حين يواجه هشاشته واغترابه بصمتٍ نبيل. في نصوصها، المكان ليس
خلفية، بل كائنٌ يتنفس مع الشخصيات ويعيد تشكيل وعيها. ولعلّ تتويج بعض الأعمال
العُمانية بجائزة البوكر مثل “سيدات القمر” لجوخة الحارثية التي فازت
بالجائزة العالمية للرواية العربية عام 2019، و “تغريبة القافر” للكاتب
زهران القاسمي الصادرة عام 2022، وحصولها على الجائزة العالمية للرواية العربية
عام 2023، و “دلشاد – سيرة الجوع والشبع” للروائية بشرى خلفان التي وصلت
إلى القائمة القصيرة عام 2022، لهو دليلٌ على أن هذا الصوت القادم من سلطنة عُمان
أصبح جزءًا حيًّا من المشهد الروائي العربي والعالمي. فهذه الجوائز لا تُكرّس حضور
الأدب العُماني فقط، بل تؤكد أن الرواية العُمانية تمتلك الصدق الفني والبصيرة
الإنسانية. فاليوم أرى الرواية العُمانية تتقدّم بثباتٍ هادئ؛ لا تصنع ضجيجًا
لكنها تترك أثرًا طويل المدى. عالمها لا يُغري بالبهرجة، بل بالعمق، لأنها تنطلق
من الإحساس بالتحوّل الاجتماعي والثقافي لتصل إلى جوهر السؤال الإنساني، ما يجعلها
-في رأيي- من أكثر التجارب العربية صدقًا ووعيًا بمرحلة الإنسان العربي في زمنٍ
يزدحم بالتحوّلات.

ويتحدث “السباع” عن كيفية
تعامله مع حقيقة الزمن داخل رواياته بوصفه عنصرًا يغيّر طريقة فهم التاريخ
والواقع، لا مجرد ترتيبٍ للأحداث، مرورًا باستخدام وقع الذاكرة في نصه، وهنا يوضح:
الزمن في رواياتي ليس مجرد ترتيبٍ للأحداث، بل كائنٌ متحوّل يعيد تشكيل وعينا
بالواقع والتاريخ، فالزمن هو الشاهد الحي على الأحداث، ليس مجرد خلفية لها، بل كل
عناصر العمل في كتاباتي أوظّفها لتكون أبطالًا، فهو الوعاء الذي يستوعب الأحداث وفق
صيرورة تاريخية، أرى أن على المبدع ضرورة رصدها في أعماله لتكون وثيقة يستفيد منها
الأجيال اللاحقة. فهو أيضًا فضاءٌ متكسّر تتقاطع فيه الذكريات بالحاضر، والماضي
بما لم يحدث بعد، كونه مرآةً، فكلّما حاولتَ النظر إليها رأيتَ نفسك في أكثر من
موقف ووجهٍ وجرح.

ويشير إلى أن الذاكرة في عالم الرواية
ليست صندوقًا مغلقًا، بل ساحةُ صراعٍ بين ما نريد أن نتذكره وما نحاول نسيانه.
ويؤكد: أترك شخصياتي تبني ماضيها بطريقتها لتصنع تاريخها الشخصي، لا كما دوّنه
المؤرخون، بل كما عاشه البشر. الشخوص في رواياتي لا قوة لي عليهم، بل أوجد ملامحهم
وأتركهم يمضون في مستقبلهم الروائي وفق تلك الملامح الإنسانية، وعلى الأبطال
اختيار الطريق حتى النهاية. أنا لا أبحث عن الحقيقة المطلقة في الكتابة، بل عن
طريقةٍ أصدق لرؤيتها، طريقةٌ تجعل القارئ يعيد قراءة الزمن نفسه من موقع القلب لا
من موقع الساعة. فالزمن، في النهاية، هو البطل الصامت في كل رواية، والذاكرة هي
الرواية التي تُكتب في الظل.

وعن حال الإنسان والمعرفة في تجربته
الروائية، يتحدث “السباع” عن الدور الذي يمنحه للرواية في فهم الإنسان
وسط تحوّلاته الفكرية والاجتماعية، مشيرًا إلى ما إذا كانت الرواية تُشفي القارئ
والكاتب من خلال الفهم، أم أنها تُقلق القارئ وتفتح أمامه طرقًا جديدة للتفكير،
ويقول: الإنسان يتعلم بالألم، فلو لم يمر بمرحلة في حياته يشعر بها بذلك الإحساس،
يبقى جاهلًا بهدف وجوده على الأرض. الرواية تحاول فك شفرة هذه المعضلة، ما بين
تجربة الإنسان الحياتية، وهو في كل عصر يعيش في خضمّ حروب وتحولات فكرية ومفاهيم
اجتماعية متغيرة. الرواية تقدم محاولة فهم تلك المتغيرات من خلال الفهم العميق
والبحث الدقيق وتفسير التاريخ. يستطيع الكاتب صياغة رؤية استشرافية جديدة من
الممكن أن تكون محذّرة أو شافية أو تعويضية عن الألم الذي لم يعشه القارئ في تلك
اللحظة الديناميكية التي يقرأ فيها الرواية. مهمتي كروائي محاولة إثارة الفكر
المؤسس لوعي جديد، وليس أن أُقلق القارئ أو أُطمئنه، فهذه ليست مهمتي، بل أسعى إلى
بثّ أفكار جديدة تتلاءم مع الواقع، وليس من المهارة أن أنعزل عنه وأكتب عن مدن
هلامية، بل أكتب عن مدن حقيقية نابعة من معرفة طويلة مستمدة من رؤية البشر حول
الأرض. وأقول دائمًا: “لا تصدق كاتبًا لم يمشِ في الأرض”. شخوص أعمالي
من لحم ودم، أفكارٌ تجري على الورق، وليست لي وصاية عليهم، أو أن أكون واعظًا
لأحدهم، إلا إذا كانت شخصية في العمل تقوم بهذا الدور، وليس أنا كروائي. أروي
الحكاية من عمق الفهم الإنساني، وأغلب أبطالي بشر حقيقيون رأيتهم في مواقف متفاوتة
من الحياة، وطورت رؤيتهم، أو تركتها كما هي، ليكون العمل إنسانيًّا محضًا. هذه
الطريقة تفتح آفاقًا رحبة أمام القارئ ليشكّل رؤية جديدة عن واقعه ومستقبله، وعند
تلك اللحظة التي تتحقق فيها أهداف العمل يكون قد حقق نجاحًا حقيقيًّا ولو مع قارئ
واحد.

ويتطرق “السباع” إلى الواقع
الاجتماعي والقضايا اليومية بوصفها مكوّنًا فنيًّا داخل الرواية، لا مجرد خلفيةٍ
للأحداث، وما إذا كان يمكن اعتبار رواياته أيضًا محاولةً لفهم الواقع من خلال عمق
التجربة الإنسانية لا من خلال الخطاب المباشر، ويقول: القضايا اليومية للواقع
الاجتماعي هي موضوع الرواية الاجتماعية التي يكون محورها الإنسان. لا يمكن لروائي
أن يعزل أبطاله عن خلفياتهم التي جاؤوا منها، لا يمكن اعتبارها مجرد خلفية
للأحداث، بل هي المكون الحقيقي لفكر شخوص الرواية. الرواية محاولة فهم عميقة
للواقع من خلال عمق التجربة الإنسانية، وسبق أن قلت إنني لست واعظًا، فتلك مهمة
مبجّلة، لكنها ليست مهمة الروائي في أعماله. رغم قدرته على اختيار ما يمكنه عمله
داخل الرواية، إلا أن الالتزام بمهمة محددة من العمل يجعله ناجحًا مع المتلقي.
فليس من المفيد أن يضيّع الكاتب وقت القارئ في قراءة عمل لا علاقة له بالواقع ولا
بالقضايا التي يعيشها، وإلا سيطويه الزمن. أمَّا الخطاب المباشر، فهو أيضًا من
الصعب اعتماده ليكون أحد أعمدة الرواية، فهي تشكيل رؤية كونية وفق العوالم التي
يعيشها كل شخوصها.

ويتحدث “الروائي السباع” عن
اللغة واللهجة في التجربة السردية، وما يمكن أن تضيفه له على المستوى القريب أو
حتى البعيد، وهنا يؤكد: اللهجة المحلية لأي شعب هي طريق الروائي إلى العالمية،
ولدي في هذا السياق مشروع روائي جديد لم يصدر بعد بعنوان “تأويل رؤية”.
فمن عمق اللهجة يستطيع الكاتب أن يصل بفكرته إلى العالم كله من دون أن تفقد اللغة
خصوصيتها، حتى لو تمت الترجمة إلى لغات أو لهجات أخرى. وفق أمانة الناقل تكون
التجربة في صدارة المشهد الأدبي والحياتي أيضًا. وهذا العمل وغيره من المتوقع أن
يتحول إلى عمل درامي أو سينمائي قريبًا، لأن هذا توقيته تمامًا، وكتبته وفق رؤية
درامية أكثر من كونه رواية، وأتبعته بأول رواية عربية عن الذكاء الاصطناعي بعنوان
“الشفرة الزرقاء”. كلا العملين في طريقهما إلى المتلقي البصري أكثر من
كونهما عملين ورقيين بحتين، فلأول مرة أكتب ما يمكنني أن أطلق عليه باطمئنان
“الرواية السينمائية” أو “الدرامية”.

وهنا يتطرق “السباع” إلى
الذكاء الاصطناعي والخيال الروائي، ومن خلال روايته التي تتناول الذكاء الاصطناعي
“الشفرة الزرقاء”، وكيف وفّق بين المعرفة التقنية والخيال الأدبي،
موضحًا ما إذا كانت التقنية قد تهدّد جوهر الإبداع الإنساني أم تمنحه أفقًا جديدًا
لفهم الذات والعالم، ويؤكد: الذكاء الاصطناعي منتج مثل أي منتج، له سوق كبير، وله
فوائد كثيرة، وكوارث أيضًا، إذ يُعد خطرًا جدًا على المعرفة الإنسانية مستقبلًا،
خصوصًا في فكرة التزييف العميقة التي تجري حاليًا، وكمّ هائل من الفيديوهات غير
الموثوقة التي تقلّب الحقائق وتُروّج بوفرة على مواقع التواصل الاجتماعي. لكنه في
الوقت نفسه، استطعتُ من خلال رواية “الشفرة الزرقاء” اجتياز تلك الحواجز
والقفز وراءها لكشف مخاطر الذكاء الاصطناعي، وما يجعلنا مكشوفين لتلك التقنية
الفائقة. أمّا ما يهدد جوهر الإبداع الإنساني فهو “الاستسهال”، فأي
إنسان يدّعي أنه مبدع ويعمل وفق تلك الفكرة يكتب شهادة فشله بيده. أمّا إذا اعتبر
التقنية وسيلة لمنح آفاق أكثر رحابة، فيكون ذلك جيدًا. أنا اخترت الطريق الثاني
حين تناولت الذكاء الاصطناعي في رواية هي الأولى من نوعها التي تقترب من تلك
التقنية، من خلال تدافع الأحداث، لأقول مع الذين قالوا بضرورة الإمساك بطرف
الأصالة الإنسانية وطرف التقنية التي تتطور لتناسب أجيالًا لها عقول مختلفة وطريقة
تفكير تختلف كثيرًا عن الأجيال التي سبقتها، وعلينا احترام رؤاهم. ورواية
“الشفرة الزرقاء” محاولة جديدة لجعل الذكاء الاصطناعي موضوع رواية
عربية، وهذا يحدث لأول مرة. أنا كتبت رواية عن تلك التقنية، ولم تساعدني التقنية
في الكتابة مثلما صرّح بعض الكُتّاب من قبل، والفرق شاسع بين المفهومين. وهذه
الرواية أيضًا كتبتها برؤية بصرية لتُقدَّم كعمل فني للمشاهد والقارئ في وقت واحد.

وعن الكتابة في زمن التقنية
والتحوّلات الجديدة، وما سيبقى للرواية من جوهرٍ إنساني في زمن الذكاء الاصطناعي
والنشر الرقمي، يشير: الرواية حكاية تُروى، وطالما الإنسان على هذه الأرض سيحاول
أن يروي حكاية الأرض التي عاش فيها، وترك وراءه تاريخه الإنساني الذي يحاول جاهدًا
توريثه بمختلف البطولات التي حققها في مكانه. مع الأسف الشديد، ظهر من يعترف أنه
يكتب بمساعدة الذكاء الاصطناعي، وكثير من كُتّاب السيناريو في هوليوود أعلنوا
اعتراضًا كبيرًا العام الماضي بسبب لجوء الشركات إلى تلك التقنية، ما أفسد عملهم.
الرواية، وفق اسمها “رواية”، أي ما يمكن لشاهد العيان أن يرصده،
وباختلاف الشهود حول الأرض يبقى ذلك الجوهر موجودًا. فالرواية وثيقة أصيلة على
قطاع عرضي من الأحداث في زمن ومكان واضحين للقارئ، لذلك أنا أكتب بأسماء المدن
الحقيقية، والخلفية السياسية والاجتماعية في زمن الكتابة بحقيقتها المجردة. الذكاء
الاصطناعي لا يقدم المشاعر الحقيقية التي تخرج من قلب الإنسان وعقله وتسجلها
أصابعه على الورق. يمكنه فعلًا أن يقدّم أعمالًا مدهشة، لكنها خالية النكهة، بلا
طعم، يقدم عملًا وفق خوارزميات الكتابة، لكنه لا يقدّم الألم الذي يعيشه الشخوص،
أو لحظة التنوير أو الفرح. علاقة الكاتب والقارئ في المستقبل لا تتغير، بل يتغير
الوسيط، فأصبح الآن الكتاب المسموع أكثر شهرة وأسهل حتى من الطباعة الورقية أو
الإلكترونية. كل هذه الطرق المتاحة تساعد الإنسان على توريث بطولاته التي حققها
على الأرض، وما يمكن للأجيال اللاحقة أن تستفيد منه من ذلك الزخم الموروث لإعادة
بنائه وتصديره إلى الأجيال التي ستأتي بعدهم أيضًا. فالرواية سلسلة لا تنقطع مهما
تغيرت الوسائط بين المبدع والمتلقي.

ويتحدث السباع عن الرواية العربية على
خريطة الأدب العالمي، وأبرز التحديات التي تواجهها حين تُترجم أو تُقدَّم للقارئ
العالمي، ويقول: الرواية العربية اليوم في مأزق تتبع خريطة الأدب العالمي، ولم
يحافظ الكُتّاب كثيرًا على خصوصيتها وتفرّدها، إذ بدلًا من ذلك اتبعوا مدارس الغرب
كنوعٍ من علاقة لا أراها سوية، علاقة الأدنى بالأعلى، وهذا ليس حقيقيًا، فالأدب
العربي بخصوصيته وتفرده أقدم بكثير من الغربي. فلماذا الآن يسعى كثيرون إلى محاولة
ترويج أن عالمية الكاتب تبدأ حين تُترجم أعماله، ووفق الترجمة ينبغي أن تواكب رؤى
متلقّيها في الغرب، ما أضعف كثيرًا تجرّد الكُتّاب من تلك الأفكار والتفرغ الكامل
لرؤاهم العربية؟ بل سعى كثيرون إلى تجسير تلك العلاقة بين الشرق والغرب بمحاولة
تقديم وجبات جاهزة (مترجمة) لقارئ لا يهتم كثيرًا بقضايانا العربية، والتي هي
موضوع الرواية.

/العُمانية/النشرة الثقافية/

خميس الصلتي