ثقافي/ من “العُشر” إلى “المُغَلَّقة”.. حكاية تخزين الحبوب في عسير

أبها 14 جمادى الأولى 1447 هـ الموافق 05 نوفمبر 2025 م واس
في جبال عسير وسهولها، لم تكن الزراعة مجرد نشاط موسمي لتأمين الغذاء، بل كانت ثقافة متكاملة تمثل روح التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع، فقد ابتكر الأهالي عبر الأجيال وسائل فريدة لحفظ محاصيلهم من الحبوب كالقمح والذرة والشعير، بطرق تراعي الظروف المناخية الصعبة، وتحافظ على الغذاء لفترات طويلة دون تلف.
ويشير الباحث الدكتور غيثان جريس في كتابه “أبها.. حاضرة عسير” إلى أن المزارعين في كل قرية كانوا يجمعون جزءًا من محاصيلهم يعرف بـ”العُشر” – أي معشار المحصول – إذ يُخصص هذا الجزء لمالية الجماعة، ويخزن في بيوت محكمة البناء تُسمى”المدافن”، تؤدي وظيفة شبيهة بما تقوم به اليوم صوامع الغلال الحديثة.
ويبين الدكتور جريس أن هذه المدافن صُممت بعناية لحماية الحبوب من الحرارة والرطوبة والحشرات، بحيث تُغلق بأقفال متعددة لا تُفتح إلا بحضور جميع الأمناء الذين يختارهم الأهالي، حفاظًا على المال العام، ويُصرف ما يُجمع من “العُشر” في أغراض اجتماعية تكافلية مثل مساعدة المحتاجين، وسداد ديون من أثقلهم الزواج أو البناء، أو إعانة من يتحمل دية دفاعًا عن النفس أو العرض، في تجسيدٍ صادق لروح التعاون التي ميزت القرى.
وفي قرية “آل ينفع” التراثية الواقعة جنوب شرق أبها، ما زالت آثار تلك الثقافة باقية، فقد نُحتت منذ قرون مدافن تحت الأرض، بعمق يزيد على مترين وعرض يقارب المتر والنصف لتكون صوامع طبيعية تحفظ الحبوب سنوات.
وتشير الروايات الميدانية لكبار السن إلى أن القرية كانت مكتفية ذاتيًّا بفضل هذه المدافن التي تُملأ وقت الحصاد بجزء من المحصول وفق نظام “العُشر”، ثم تُستخدم محتوياتها لاحقًا لإكرام الضيوف ومساعدة الفقراء والمحتاجين. ويبرز في القرية ما يُعرف بـ”بيت الجماعة”، وهو غرفة كبيرة تحت المجلس الرئيس تضم سبعة مدافن كبيرة تُملأ بالحبوب سنويًا، وتُدار بشفافية واتفاق بين الأهالي لتلبية حاجات المجتمع المحلي، سواء في فترات القحط أو عند مواجهة النفقات الطارئة.
أما في تهامة عسير، وتحديدًا في جبل «أحد ثربان» غرب محافظة المجاردة، فتأخذ مدافن الحبوب شكلًا مختلفًا يناسب طبيعة المكان، فهناك تنتشر المباني الحجرية المعروفة محليًّا باسم “المُغلَّقة”، وهي بيوت حجرية صغيرة مشيدة فوق الصخور النارية الصلبة، تُستخدم لحفظ محاصيل الذرة والشعير والسمسم بعد الحصاد. وتتميز هذه “المُغلقة” بباب صغير محكم الإغلاق يمنع تسرب الرطوبة، ولا تحتوي عادة على نوافذ، لضمان بقاء الحبوب في بيئة جافة ومحفوظة لفترات طويلة، وهو ما جعلها تؤدي دور الصوامع الطبيعية منذ مئات السنين.
وتمثل طرق تخزين الحبوب القديمة في عسير إرثًا حضاريًّا يجسد ذكاء الإنسان في التعامل مع بيئته، فهذه المدافن – سواء كانت تحت الأرض أو على قمم الجبال- لم تكن مجرد مخازن طعام، بل كانت رمزًا للتكافل الاجتماعي والاستدامة الغذائية التي وُلدت من رحم الحاجة وعبقرية التكيّف.
واليوم، مع ازدياد الاهتمام بالتراث غير المادي، تُعد هذه النماذج من التخزين التقليدي شاهدًا على حضارةٍ زراعيةٍ متجذرة، تستحق التوثيق والحفاظ لتبقى حاضرة في ذاكرة الأجيال القادمة.
// انتهى //
18:07 ت مـ
0184