
الجزائر في 8 سبتمبر /العُمانية/ في
زمنٍ تسرّعت فيه الكلمات وتلاشت المسافات، يعود الكتّاب إلى الرسائل الورقية، لا
بوصفها وسيلة تواصل فحسب، بل طقسًا وجدانيًّا، ولغةً تحفظ حرارة اليد، ورائحة
الأماكن، وارتعاشة القلب في لحظة الانتظار.
وقديما، كانت الرسائل تُكتب ببطء،
وتُقرأ ببطء، وتُنتظر ببطء، لكنّها كانت تصل وهي تحمل من الدفء ما لا تُقدّمه
الشاشات اليوم، ولا تعوّضه إشعارات الهاتف.
فالشاعر نورالدين مبخوتي يستعيد تلك
المرحلة بشيء من النوستالجيا الحارّة، قائلاً: “ما زلت أحتفظ برسائل شعراء
وأدباء من تسعينات القرن الماضي، مثل الشاعر الراحل عثمان لوصيف، وحكيم ميلود،
ونورالدين الزين، وقد ظلت كلماتهم محفورة في ذاكرتي بلون مدادها الأسود. وكانت هذه
الرسائل حارسة لأخوّةٍ إنسانية وأدبية، لا تنقل فقط الكلمات، بل تنقل نبض العلاقة”.
ويرى مبخوتي أن ما يفتقده اليوم هو
الكتابة بخط اليد، بما تحمله من شحنة شعورية لا تتيحها أدوات الطباعة الحديثة. من
هنا جاءت محاولته الجمع بين الشعر والخط العربي عبر تجربة “التشجير”،
حيث تُكتب القصيدة بشكلٍ بصريٍّ إبداعي. كما يصف الطوابع البريدية بأنها “علامات
سيميائية تشكّل إرثًا بصريًّا يحفظ ذاكرة الشعوب”.
من جهتها، ترى الباحثة الجامعية د.
يمينة بغور أن الرسائل الورقية لم تكن مجرد وسيلة اتصال، بل نصوصًا إنسانية تعبّر
عن الألفة، وتوثّق العلاقات، وتوجد جسورًا بين الأمكنة والقلوب. تقول: “كانت
الرسالة تُمثل طقسًا أدبيًّا: كتابة بطيئة، وانتظارًا حارًّا، ومسافة زمنيّة تُضفي
على اللقاء المؤجل معنى أعمق.”
وتضيف: “في نصوص كثيرة نجد هذا
الحنين حاضرًا، كأدب مستقلٍّ داخل رسائل غسان كنفاني، وجبران، وماركيز، وغيرهم.
فالرسائل لم تكن تواصلا فقط، بل سيرة إنسانية مصغّرة، تُدوّن بخط اليد وتُقرأ بكل
الحواس.”
أما الباحث لمجد بن رمضان، فيشير إلى
التحوّلات الكبيرة التي طالت فعل الكتابة ذاته. ويقول: “الرسائل الورقية كانت
تُحرّر بعناية، يتوخى فيها الكاتب جمال اللغة ومتانة الأسلوب، حتى في أبسط
العبارات. أما الرسائل الرقمية الحديثة، فقد نزعت عنها أغلب عناصرها الجمالية،
لتصبح سريعة، مقتضبة، ومفتقرة للدفء”.
ويرى أن البريد الإلكتروني اليوم بات
يُدار وفق نماذج جاهزة، و”رسائل الدردشة” فقدت مع الزمن أي علاقة بالشكل
الأدبي أو الإنساني القديم.
وفي مفارقة لافتة، يقول الشاعر والناشر
رفيق جلول، أحد أبناء الجيل الرقمي: “أشعر بانتماءٍ غريب لزمن الرسائل
الورقية، رغم أنني لم أعشه فعليًّا. لكنني ورثتُ هذا الحنين من قراءة رسائل
الشعراء، حيث كانت كل رسالة تفيض بما يكفي لأن تُطبع ديوانًا”.
ويضيف: “في زمن السرعة، نكتب
بسرعة، وننسى بسرعة. أما أولئك فكانوا يكتبون ببطء، ويُمهلون القلب وقتًا كافيًا
ليقول ما يشعر. لذا أعود أحيانًا إلى كتابة رسائل بخطي، حتى وإن لم أرسلها. أحتفظ
بها كطقس شخصي، مقاومةً لابتذال اللحظة الرقمية”.
وترى الروائية فريال قورشال أن الحنين
للرسائل الورقية ليس رفضًا للحاضر، بل تعبيرٌ عن فقدان لطقوس أصيلة. لكنها ترفض
مثالية الماضي، قائلة: “المعنى الإنساني لا يموت، بل يتخذ شكلاً آخر.
والرسالة لم تكن فقط الطابع والورق، بل ما تحمله من صدق. واليوم، رغم برودة
الوسائط الحديثة، إلا أنها تحمل أيضًا فرصة للوصل الدائم، وتتيح للمغترب أن يكون
حاضرًا بلحظته، وصوته، وصورته”.
في حين تؤكّد الكاتبة مسعودة مصباح أن “لكلّ
شيء حنينًا، والرسائل الورقية كانت لغة ذلك الحنين، وما تزال تحتفظ بها ككنزٍ صغير
في الذاكرة والدرج”. وهي، مثل كثيرين، ما تزال ترى في الطابع البريدي قصيدة
صغيرة مرسومة بألوان الوطن.
وفي النهاية، الرسالة ليست ورقًا فقط، بل
طقسٌ وجدانيّ يتحدّى السرعة، ويعيد الإنسان إلى نفسه. ورغم تغيّر الوسائل، يبقى
السؤال مطروحًا: هل ما زال في وسعنا أن نكتب كما نحبّ، لا كما تُملي علينا
الإشعارات.
الرسالة الورقية كانت فعل حبّ، وفعل
انتظار، وفعل كتابة. وفي زمن الشاشات، لعلّ أجمل ما يمكن أن يفعله الكتّاب هو أن
يستعيدوا روح الرسالة، حتى لو غاب الظرف والطابع.
/العُمانية/النشرة الثقافية/
أمل السعدية