“النازحون” الفلسطينيون في الشتات يتوجسون “التغيير”

  غزة 14-9-2023 وفا- سامي أبو سالم  في النكبة عام 1948 هُجر الفلسطيني جمعة أبو شومر، على يد العصابات الصهيونية المسلحة، من قرية بيت طيما، شمال شرق غزة، حاملا طفله “توفيق” الذي بلغ من العمر حينها عاما واحدا، وفي التوقيت ذاته، هُجر عبد الرحمن الغروز من قريته بيت نتّيف، شمال غرب الخليل. لجأ أبو شومر وعائلته إلى دير البلح، جنوب قطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية، ولجأ الغروز وعائلته إلى مخيم “عقبة جبر” جنوب غرب مدينة أريحا في الضفة الغربية التي كانت تحت الإدارة الأردنية. وسُجل الاثنان وذريتاهما في سجلات “الأونروا” (هيئة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) كلاجئين، حتى اللحظة. كبر الطفل اللاجئ “توفيق” وأنهى دراسته الثانوية في غزة، وتوجه سنة 1963 إلى القاهرة للدراسة الجامعية. أما الغروز فلم يحتمل ضنك العيش في عقبة جبر، فانتقل وأسرته سنة 1966 إلى عمان بحثا عن عمل. لكن، في الرابع من يونيو اندلعت حرب 1967 التي احتلت فيها إسرائيل كلا من الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة (والجولان وشمال سيناء)، فيما بات يُعرف ب”النكسة”. أنهى توفيق أبو شومر الامتحانات النهائية في الجامعة وحاول العودة إلى غزة، لكن قوات الاحتلال منعته. وكذلك الحال مع الغروز الذي حاول العودة بعائلته إلى عقبة جبر إلا أنه مُنع أيضا. وبجانب لقب “لاجئ”، حمل كل من أبو شومر والغروز لقب “نازح”. واختلفت الآراء، سطحيا، حول تعريف “النازح”، لكن فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فقد لخصتها دراسة للمركز المعلومات الوطني الفلسطيني فقالت، إن النازحين هم: “الذين اضطروا للنزوح عن مدنهم وقراهم ومخيماتهم إثر حرب حزيران 1967م في فلسطين، أما الذين خرجوا في عام 1948م فيُطلق عليهم لاجئون”. ويضاف للنازحين من كان مسافرا قبل النكسة ومُنع من العودة أو أُبعد قسرا بقرار من الاحتلال مثل نشطاء ومقاومين بارزين، كما يقول توفيق أبو شومر الذي تنقل للعمل في دول عربية وانخرط في الكتابة فأصبح روائيا وكاتبا مختصا بالشأن الصهيوني. ووفقا لدراسة للمركز الوطني للمعلومات، هناك خمس فئات رئيسة تدخل ضمن إصطلاح النازحين: الفئة الأولى هي التي نزحت مع بدء العمليات العسكرية في حرب حزيران عام 1967 حتى بداية أول إحصاء إسرائيلي للسكان الفلسطينيين في شهر أيلول من العام نفسه. والثانية هم من الضفة الغربية وقطاع غزة، وكانوا في سفر خارج البلاد ومنعهم الاحتلال من العودة. والثالثة تشمل جميع الأشخاص الذين حالت الأوامر العسكرية والإدارية الإسرائيلية دون عودتهم إلى مكان إقامتهم الدائم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك رغم حصولهم على بطاقات الهوية الصادرة عن سلطات الاحتلال العسكرية، وخروجهم بتصاريح أو وثائق سفر إسرائيلية انتهت مدتها دون أن يتمكنوا من العودة. أما الفئة الرابعة فتشمل كل الأشخاص الذين أُبعدوا قسراً بحجج أمنية أو غيرها. والخامسة تشمل نسل الفئات الأربع السابقة. ويقول محمد عبد الرحمن الغروز، الذي وُلد في مخيم عقبة جبر سنة 1953 إنه كان ثالث ثلاثة لوالده عبد الرحمن. استقروا في عمان وأنجبت والدته أربعة أطفال آخرين ليصل مجموعهم إلى سبعة. تزوج محمد وإخوته السبعة وأنجبوا أحفادا، تزوج عدد منهم وأنجبوا أيضا أحفادا جددا لتصل ذرية عبد الرحمن إلى 51 نازحا كلهم يمنعهم الاحتلال من العودة. وآلاف الأسر كانت قد هربت خلال حرب 1967 تجنبا لتكرار المجازر التي وقعت بحق الفلسطينيين على يد العصابات الصهيونية إبان النكبة (1948)، كما أفاد كل من أبو شومر والغروز. “إبان حرب 1967، كنا في عمان ورأيت عائلات تهرب من فلسطين إلى المدن الأردنية مشياً يحملون أطفالهم وأغراضهم، وبعضهم يجرّون حيواناتهم الأليفة”، قال محمد. وأجرت قوات الاحتلال بعد “النكسة” إحصاءً للسكان استثنت فيه من كان خارج الأرض المحتلة [الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس] ومنعتهم من العودة، كلهم يتم تصنيفهم كنازحين. وبلغ عدد النازحين إبان حرب حزيران 412.660 نازحا من الأرض المحتلة، وذلك وفقا لإحصاءات تقديرية قدمها الباحث المختص في شؤون اللاجئين تيسير عمرو في ندوة “النازحون الفلسطينيون ومفاوضات السلام” التي نظمها مركز اللاجئين والشتات الفلسطيني في رام الله (شمل) في نوفمبر 1995. ووفقا لورقة عمرو، فإن هذا الإحصاء لا يتضمن ذرية النازحين التي تقيم غالبيتها في الأردن، ويتوزع آخرون في مصر ولبنان والخليج العربي ودول أخرى. وقال المحلل السياسي عاهد فروانة، لمراسل “وفا”، إن عدم توفر إحصائيات دقيقة يعود لأسباب سياسية معقدة، إضافة إلى أن عشرات الآلاف من الفلسطينيين النازحين، واللاجئين، غادروا دول الطوق وهاجروا إلى أوروبا والأميركيتين سواء للعلم أو العمل واستقروا هناك ولم يعودو”، هؤلاء أيضا تزوجوا وأنجبوا وكونوا عائلات نازحة ولا يخضعون لأي إحصاء”. ويقول الباحث أحمد تايه في دراسة له، نشرتها جامعة الأزهر بغزة، عام 2017، إن السفارات الفلسطينية لم تصل إلى إحصائية دقيقة حول عدد النازحين واللاجئين بسبب عراقيل من بعض الدول. ويشير تايه إلى أن بعض الفلسطينيين [نازحين ولاجئين] هاجروا إلى دول في أوروبا والأميركيتين وأستراليا بعد حرب الخليج 1991. مضيفا أن غياب عمل المؤسسات الدولية المعنية [مثل الأونروا ومفوضية اللاجئين] عن بعض الدول العربية له دور في غياب الإحصائيات. وكان الباحث وليد سالم قد قدم ورقة عمل في ندوة شمل (1995) نقل فيها عن عضو الوفد الفلسطيني المفاوض، نبيل شعت، أن عدد النازحين بلغ زهاء المليون ونصف المليون. وحول عودة أو زيارة النازحين لفلسطين يقول الروائي أبو شومر إن النازحين- وبالطبع اللاجئين- لا يمكنهم العودة بسبب منع قوات الاحتلال لهم، ولم يكن باستطاعة النازح العودة إلا كزائر بعد أن يقدم أحد الأقارب درجة أولى (مثل الأب أو الزوجة أو الابن) تصريحا إلى الحاكم العسكري الإسرائيلي، للسماح لفلان بالزيارة، وغالبا يُرفض الطلب. وكان عدد من الفلسطينيين قد عاد بعد 1967 وحصل على بطاقة هوية واستقروا في الأراضي المحتلة عبر إجراء فرضه الاحتلال سمي بـ”جمع الشمل”. وتقدم آنذاك جمعة أبو شومر إلى الحاكم العسكري الإسرائيلي بتصريح زيارة لابنه توفيق فتمت الموافقة بعد 4 سنوات (1972)، إذ وصل إلى غزة وتزوج من فلسطينية “غير نازحة” أي أنها تحمل الهوية التي أصدرها الاحتلال، لأنها لم تكن مغادِرة إبان الاحتلال. وحرص أبو شومر على منح أطفاله الهوية؛ ففي كل إجازة كانت زوجته وأطفاله يزورون غزة وصدرت لهم بطاقات الهوية كتابعين لأمهم. “لو تزوجت من فلسطينية نازحة لأنجبنا أطفالا نازحين لا يمكنهم دخول فلسطين إلا بتصريح كزائرين فقط، وهذه قضية أخرى، أي أن هناك عائلات نازحة جديدة وممتدة وأجيالا من النازحين”. قال توفيق أبو شومر. ويقول محمد الغروز، إن نجله أكرم تزوج من فلسطينية من الضفة الغربية “غير نازحة”، التي بدورها تقدمت بطلب لمّ شمل، إلا أن الاحتلال يرفض قبول الطلب منذ 7 سنوات. وهنا أشار أبو شومر إلى أن الاحتلال كان يبتز بعض العائلات “لجمع شملهم”، سواء بطلب تعاون معه (خيانة)، أو مقابل مبالغ مالية لجيوبهم الخاصة. “أنا شخصيا، وغيري، دفعنا عام 1990 لوسيط مبالغ متفاوتة زهاء أربعة آلاف دينار أردني كرشوة لضباط إسرائيليين للموافقة على جمع شملنا، آنذاك كان مبلغا كبيرا” قال أبو شومر، “إنهم فاسدون”. وحول أسباب عدم موافقة الاحتلال على عودة النازحين إلى بيوتهم، قال أبو شومر، إن الاحتلال يتعمّد تهجير الفلسطينيين عبر الترغيب والترهيب ومنع العودة، وهو إجراء كامتداد لما يُعرف باسم “خطة دالت” الصهيونية الهادفة إلى تفريغ فلسطين من أصحابها، وإحلال يهود من مختلف أنحاء العالم مكانهم. و”خطة دالت” هي الخطوة الرابعة من خطة عسكرية وضعتها الحركة الصهيونية أواخر 1947، ومن أهدافها: احتلال الأراضي الفلسطينية، وطرد الفلسطينيين من أرضهم بكل السبل. يقول المحلل السياسي فروانة، إن معضلة العودة تكمن حصرا في إسرائيل، فدولة الاحتلال ترفض تنفيذ أي بند اتُفق عليه أو أي قرار دولي بخصوص عودة النازحين أو اللاجئين، بل ترفض نقاش قضيتهم. في عام 1993، وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الاحتلال اتفاق إعلان المبادئ “أوسلو”. ووفقا للمادة الـ12 من الاتفاق، فقد تم تشكيل لجنة رباعية من مصر والأردن وإسرائيل وفلسطين، انبثقت عنها لجان لحل بعض القضايا منها: عودة من نزحوا من الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967. ويقول فروانة، إن إسرائيل رفضت التعريف الفلسطيني لكلمة “نازح”، ورفضت الإحصائيات الفلسطينية الخاصة بهم، ورفضت الاعتراف بأحفاد النازحين ممن كانوا يقيمون في فلسطين خلال حرب 1967 أسوة بأحفاد اليهود ضحايا النازية. وأصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 237 في 14 يونيو 1967 بعد حرب حزيران، طالب فيه إسرائيل “بتسهيل عودة أولئك السكان الذين فروا من المناطق منذ نشوب القتال”، إلا أن إسرائيل رفضت ولا تزال ترفض التنفيذ. وكان الرئيس الأميركي جونسون قد التقى برئيس الوزراء السوفيتي كوسغين، بعد حرب 1967، وتطرق إلى حل قضية اللاجئين من خلال تسوية عادلة ودائمة، وطالب بتشجيع عودة جميع اللاجئين العرب الذين غادروا أماكن إقامتهم بعد حرب 1967 إلى أماكن إقامتهم، أما بقية اللاجئين الفلسطينيين فيجب أن يعاد توطينهم في البلاد العربية. وقال المحلل السياسي فروانة، إن ذلك لم يتحقق أيضا بسبب رفض الاحتلال، مشيرا إلى أن من يتواجدون في الدول العربية سواء نازح أم لاجئ، فيتم التعامل معهم معاملة واحدة طالما أنهم غير قادرين على العودة إلى بيوتهم. وفي مارس 1997، أصدرت جامعة الدول العربية قرارا أكدت فيه ضرورة العمل على تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 237 لعام 1967. وعندما تشتت النازحون (واللاجئون) في دول عربية وأجنبية عديدة، واجهتهم مشكلة بطاقة التعريف (الهوية) وجواز السفر، فأصدر مجلس وزراء الداخلية العرب، المنبثق عن جامعة الدول العربية، القرار رقم 8/ دأ، الخاص بمعاملة الفلسطينيين في الأقطار العربية في 15/12/1982 الذي ينص على أن “تُعامل وثيقة السفر الخاصة باللاجئين الفلسطينيين الصادرة من أي قطر عربي نفس معاملة جواز السفر الخاص بمواطني ذلك القُطر”، ويعامل الفلسطيني الحامل لوثيقة سفر اللاجئين الفلسطينيين معاملة رعايا الدول المصدرة لهذه الوثيقة في حرية الإقامة والعمل والتنقل. لكن هذا لا يعني أن الأمر وردي، فالمعاملة تختلف من بلد إلى آخر. وهناك دول تقدم فيها وكالة الغوث مساعدات إليهم (مثل لبنان والأردن)، ودول ترفض ذلك، وبالعموم يعيش النازحون الفلسطينيون بشكل شبه طبيعي إلى أن ينهي أبناؤهم الثانوية العامة، وبعدها تبدأ المشاكل في بعض الأقطار، كما يقول النازح الفلسطيني خالد مطر (53 عاما). فبعض الدول تمنع العمل في أي وظيفة، وأخرى تتعامل في الدراسة الجامعية كالأجانب، وهذا إرهاق مالي لا يتحملونه، وفوق ذلك، هناك بعض الدول غير العربية لا تعترف بوثيقة سفر تكون صادرة عن دولة ما لصالح جنسية أخرى (الفلسطينية)، فيفقد طلاب حصلوا على منح دراسية فرصة الدراسة، أو أي مصالح أخرى، وفقا لمطر. ويضيف مطر، والد الأطفال الأربعة، الذي ورث صفتي “نازح ولاجئ” عن أبيه أن من أكثر ما يؤرق النازح أو اللاجئ الفلسطيني هو الشعور باللااستقرار، ففي حال أي تغير سياسي في الدولة التي يعيش فيها، يبقى الفلسطيني تحت تهديد التغيير للمجهول، والعقود السابقة مليئة بالأمثلة. “نحن نعيش الآن في ليبيا بأمان واستقرار وسكينة، لكن لا نعرف عند أي تغيير سياسي ما الأمر الذي سيطرأ على إقامتنا، ونحن في كل الأحوال نحترم ونلتزم بقوانين وقرارات الدولة التي نقيم فيها”، قال مطر. ويقول مطر، إن أباه الذي هاجر قسرا من مدينة المجدل سنة 1948 عندما كان عمره 4 سنوات. ثم خرج من غزة سنة 1962 طالبا للعلم في مصر ثم للعمل في ليبيا، واندلعت حرب حزيران ولم يستطع العودة. تزوج وأنجب أبناءً تزوجوا وأنجبوا لتصل ذريته إلى 30 فردا كلهم لاجئون ونازحون. وكشف أن كثيرا من النازحين الفلسطينيين يسعَون إلى الحصول على جنسية أخرى للرغبة في الحصول على جواز سفر رسمي يسهّل تنقله في أرجاء العالم، أو للجوء إلى البلد الذي يحمل جنسيته في حال أي طارئ. ويتنقل مطر وعائلته بجواز سفر فلسطيني صادر عن الحكومة الفلسطينية، لكن من غير رقم هوية لذلك يُستخدم “خارجيا” فقط، أي ليس بإمكانه استخدامه للعودة إلى فلسطين إلا برقم هوية، ولا يمكن الحصول على رقم إلا بالحصول على الهوية نفسها التي تصدر إما عبر “لم الشمل” أو العودة، وفي الحالتين فإن إسرائيل ترفض. وكشف مطر أن هناك مشاكلا اجتماعية وعائلية تطرأ على الأزواج الفلسطينيين بسبب “الهوية” أبرزها الطلاق. فإذا كان الرجل ممن يحملون الهوية وسافر خارج البلاد وتزوج من فلسطينية لا تحمل الهوية (أو العكس) ثم عاد إلى فلسطين، فليس هناك أي ضمان أن يسمح لهما الاحتلال بالعودة فيضطران إلى الانفصال، وعليه تتشتت العائلة وسيضطر الأطفال إلى العيش مع أحد الأبوين وفقا لقوانين الدول التي يعيشون فيها. “وهناك حالات عقد قران لم تكتمل واضطر الزوجان إلى الانفصال قبل إتمام الفرح، بسبب عدم التمكن من الالتقاء في فلسطين”، قال مطر. سيبقى النازحون الفلسطينيون في نزوحهم حتى يتوفر ضغط دولي حقيقي على الاحتلال، للرضوخ للحقوق الفلسطينية بما فيها عودة الفلسطينيين إلى بيوتهم، فالاحتلال الذي يسمح بقدوم يهود من جميع أنحاء العالم للاستيطان على الأراضي الفلسطينية، هو الذي يمنع الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم، العقبة الرئيسة في وجه أي حل هي الاحتلال، قال فروانة. ــــ س.س/ م.ب